يُعد
تعليم تاريخ حضارتنا العربية الاسلامية للاجيال الناشئة من ابنائنا
وبناتنا احد اهم الواجبات المنوط بمؤسساتنا التعليمية والاسرية تأديتها
والقيام بها تجاه هؤلاء الابناء الذين سيتحملون مسؤولية الأمة وامانتها في
المستقبل القريب، ولا شك ان اجيالنا القادمة لن تستطيع تأدية رسالتها او
الاضطلاع بدورها على الوجه الاكمل ما لم يتم تعليمهم وتشكيل ثقافتهم على
اسس علمية ومنهجية سليمة يكون من شأنها اتاحة الفرصة لهم لممارسة التفكير
والنقد والمقارنة والتحليل والتعليل بصورة تجعلهم أكثر حيادية وأكثر قدرة
على فهم ماضي امتهم وتراث اجدادهم، بل وتراث الانسانية كلها، مما يتيح لهم
فهم الحاضر ومعطياته والاستعداد للتعامل مع المستقبل وتحولاته.
صعوبات
في الطريق الأمر الذي يجعل من مهمة القائمين على امر التربية والتعليم في
مؤسساتنا التعليمية والتربوية صعبة وشاقة، ويجعل مهمة الآباء والامهات هي
الاخرى ليست من السهولة بمكان، ذلك لان تعليم تاريخ حضارتنا لابنائنا
واجيالنا الصاعدة في الوقت الراهن يكتنفه العديد من المشكلات والصعوبات،
لا سيما في ضوء المتغيرات العالمية المعاصرة التي تؤثر على اوضاعنا
الثقافية والاجتماعية والتعليمية الى حد كبير، والحق انه يمكننا الاشارة
الى بعض هذه الصعوبات على النحو التالي:
أ­ - ثمة
حالة من الهجوم الدائم والمستمر من بعض المتشددين في الحضارات المناظرة
لنا حالياً، وايضاً من بعض المثقفين من ابناء جلدتنا على الحضارة
الاسلامية، بهدف ادانتها والتقليل من قيمة عطائها العلمي والفكري على مدى
تاريخها الطويل، الامر الذي يقتضي منا العمل على توضيح الرؤى وابراز الدور
الكبير الذي ادته الحضارة الاسلامية في النهوض البشري والتقدم الانساني.
ب ­- يكرّس
خطاب بعض وسائل الاعلام حالة التفرقة والتجزئة والتشرذم بين ابناء الأمة
الاسلامية عن طريق تضخيم الخلافات الداخلية كالنزاعات الطائفية والمذهبية
والقبلية العشائرية والوطنية.
ج­ - وجود
بعض القضايا والخلافات القديمة التي لم يتم حسمها ولم تستطع ثلة من اصحاب
الرأي المعاصرين التخلص منها ومن آثارها الضارة الى الآن.
الإنقسام
ويدرك
الراصد هنا ان هذه المسائل تؤدي جميعها ­ ان لم يتم حسمها والتغلب
عليها وتجاوزها­ الى تحقيق غرض واحد وهدف محدد يسعى خصوم امتنا
الى الوصول اليه، الا هو كسر شوكة هذه الأمة بالتكريس لفرقتها واضعافها كي
ما تستمر في الدوران في فلك الانقسام والتجزئة والصراعات الداخلية، مما
يؤدي الى نكوصها الحضاري وتخلفها التقني عن الأمم التي تشاركها الوجود،
ويجعلها دائماً في حاجة الى الاعتماد على الآخرين والانصياع لهم والحرص
على ارضائهم وتنفيذ رغباتهم.
قواعد مهمة
ولكي
نتخلص من هذه الحالة ­ التي لا بد ان نتخلص منها ­ علينا
ان ننتهج في تعليم ابنائنا للتاريخ الاسلامي منهج الموضوعية والوسطية
والحيادية والتسامح بما يتماشى مع روح عقيدتنا وسماحة ديننا وعظمة
حضارتنا، وكي يتحقق لنا ذلك يجب علينا ارساء قواعد عدة اثناء قيامنا
بتعليم اطفالنا هذا التاريخ، او حتى اثناء محادثتهم عنه في جلساتنا
المنزلية أو أثناء محاورتهم في مقرراتهم الدراسية والندوات التثقيفية
والتعليمية، ونشير الى هذه القواعد على النحو التالي:
التقريب
القاعدة الأولى: ان
نستلهم تاريخ حضارتنا في التقريب بين المذاهب واحترام الملل الاخرى
والدعوة الى التعاون والتعايش بين جميع الامم والحضارات على اسس من
الاحترام المتبادل.
ولابد أن نوضح لابنائنا عندما نعلمهم تاريخ
حضارتنا ان الاسلام كدين، وكثقافة وحضارة، ليس لديه مواقف عدائية من أي
حضارة، ولا يرفض الانتفاع بالمناهج والسبل التي اثبت التاريخ صلاحيتها
للنهوض والتقدم، والتي استطاع الآخرون ان ينجزوا تقدماً ويصنعوا حضارة من
خلال الاعتماد عليها والاخذ بها ما لم تتعارض مع ثوابتنا الدينية
والاخلاقية، ولقد سبق للمسلمين الاوائل ان تواصلوا بشكل ايجابي مع اليونان
والفرس والروم والهنود وترجموا عنهم وتعلموا منهم واخذوا ما ينفعهم
وشكروهم عليه، وتركوا ما لا نفع لهم فيه ونقدوه وسجلوا رفضهم له، وكثيراً
ما نقرأ في كتب «الغزالي» ت505 هـ، و«ابن رشد» ت595 هـ و«الطهطاوي» 1873،
و«الأفغاني» ت1897 و«محمد عبده» ت1905. وغيرهم ثناءً على المنجزات
المعرفية الصالحة التي توصل الآخرون اليها ونجحوا في ادراكها، شريطة الا
تتعارض هذه المعارف وتلك العلوم مع ثوابت الدين ومقومات وجوده.
التخلف الحضاري
القاعدة الثانية:
ان عقيدتا بريئة تماماً من حالة التخلف الحضاري الذي يعاني منه المسلمون
حالياً: لان الشريعة تدفع المسلمين دفعاً باتجاه اعمار الكون وطلب العلم
والمعرفة، وتدفعهم الى تطبيق المنهج العلمي في فهم الكون والطبيعة وتحذرهم
من السير وراء الخرافات والاباطيل والخزعبلات، وتأمرهم بأن يرفضوا كل ما
من شأنه التأثير سلباً على تقدمهم العلمي وترقيهم الحضاري قال تعالى:
{ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم} (البقرة ­102)، وان لم يفعلوا ذلك
كانوا من المقصرين في حق دينهم وثقافتهم وحضارتهم، والدليل على ذلك ان
الامام «محمد عبده» ت 1905، رأى ان الأمة الاسلامية تكون مقصرة كلها اذا
تأخرت حضارياً في الوقت الذي يتقدم فيه غيرها ويسبقها في دراسة العلوم
والافكار» .
البحث العلمي
ويرجع
ذلك الى ان تخلف المسلمين الحضاري يمنح الآخرين الفرصة لان يتطالوا على
الاسلام بحجة انه السبب في تخلف الشعوب الاسلامية في البحث العلمي والتقدم
الحضاري كما زعم ذلك جماعة من المستشرقين.
وتجدر بنا الاشارة الى أن
المسلمين الاوائل استوعبوا اوامر دينهم وتعليمات شريعتهم مما اتاح لهم
ابداع الكثير من الافكار والتصورات والاجتهادات التي ساعدتهم على اكتشاف
العديد من النظريات العلمية، ويُستحب التركيز هنا على الفترات التاريخية
التي توهجت فيها حضارتنا العربية الاسلامية بالانتاج العلمي الغزير في
مختلف الفروع والتخصصات من طب وصيدلة وفلك وحساب وجبر وهندسة وآداب وفنون
راقية وفلسفة ومنطق ومناهج بحث ودراسات اسلامية متعددة الفروع
والاتجاهات.. وذلك زرعاً للثقة في نفوس ابنائنا تجاه تاريخ آبائهم وماضي
حضارتهم.
العنصرية
القاعدة الثالثة:
ان حضارتنا لا تتعصب لنفسها على حساب الحضارات الاخرى: لانها قامت على
تعاليم الاسلام السمحة التي لا تعطي تميزاً للمسلم على غيره من الناس
لمجرد انه من المسلمين، ذلك لان التميز في الاسلام يأتي من حسن الاخذ
بالمنهج وحسن الالتزام بتعليماته والوعي بها، قال تعالى:{إن أكرمكم عند
الله أتقاكم} (الحجرات ـ 13)، فالمسلم لايفضل على غيره من الناس لمجرد
كونه مسلماً، بل لا بد من الالتزام بالمنهج الاسلامي الوسطي المعتدل، قال
تعالى:{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر
وتؤمنون بالله} (آل عمران ـ 110)، فالتميز هنا لا يرجع الى الجنس أو العرق
أو القومية كما يزعم الآخرون بل يرجع الى السلوك السليم، والى امر الناس
بالمعروف والخير الذي هو عبادة الله تعالى والاصلاح في الارض بعد أن نكون
قد فعلناه نحن قبل أن نحدث الناس به أو نطلب منهم الاقدام عليه، ويرجع
ايضاً الى نهي الناس عن المنكر ­ الذي هو افساد للارض والحياة
وتدمير للحضارة والتقدم الانساني­ بعد ان نكون قد انتهينا نحن عنه
عملياً في افعالنا واقوالنا.
فالحضارة الاسلامية بهذا المعنى ليست
حضارة شيفونية او عنصرية تعلي شأن من ينتمي لها لمجرد انتمائه لعقيدتها
ودخوله في منظومتها، اذ لابد من اتيان الافعال الصالحة والانتهاء عن كل ما
هو منكر وغير مقبول.
التعدد
القاعدة الرابعة:
الحضارة الاسلامية تؤمن بالتعدد بل ترى انه سنّة الحياة، حيث أكدت النصوص
الدينية في أكثر من موضع ان الله تعالى وحده هو الذي يتميز بالوحدانية قال
تعالى: {قل هو الله أحد} (الاخلاص ـ 1)، وقال تعالى ايضا: {الله لا إله
إلا هو الحي القيوم} (البقرة ـ 255)، اما بقية الموجودات فقد كانت سنّة
الحياة فيها هي التعددية، حيث آمن الاسلام «بأن التعددية هي السنّة
والقانون في سائر عوالم الخلق، التي فطرها خالقها على الثنائية والازدواج
والاشتراك والاتقان، فطرة وسنّة لا تبديل لها ولا تحويل»، قال
تعالى:{سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الارض ومن انفسهم ومما لا
يعلمون} (يس ـ 36).
الاكراه
القاعدة الخامسة:
الحضارة الاسلامية ليست حضارة اكراه او ضغط: فانطلاقاً من ايمان الحضارة
الاسلامية بالتعدد والتعددية وجدناها لم تلجأ تاريخياً الى الضغط او
الاكراه من اجل فرض الدين الاسلامي على أي شعب من الشعوب او أي أمة من
الامم، ولقد سجل التاريخ في كل صفحاته وسطوره، بما فيها كتابات العديد من
المستشرقين ان حضارتنا لم تفعل ذلك ولم تلجأ اليه كمنهج لنشر الدعوة
الاسلامية ، بل لم يكن من المسموح لها ان تفعله او تقدم عليه، ذلك لان
القرآن الكريم وهو يمثل المرجعية الاساسية للشريعة الاسلامية قد أكد رفضه
التام لاكراه الناس على الدخول في الدين او الانتماء اليه، قال تعالى:{لا
اكراه في الدين} (البقرة ـ 256).
القاعدة السادسة:
ان الحضارة العربية الاسلامية ليست بدعاً من الحضارات، بمعنى ان قانون
العملية الحضارية ينطبق عليها شأنها شأن أية حضارة اخرى، من هنا فقد شهدت
هذه الحضارة لحظات ازدهار واوقات انكسار، فترات تتقدم واوقات تتراجع، عصور
تواصل وانتفاح واوقات انكفاء على الذات وانغلاق على النفس، بالتالي فان ما
تمر به الأمة العربية والاسلامية من نكوص وتراجع حضاري في الوقت الراهن
لايعود الى الطبيعة العربية ذاتها كما يحاول بعض المستشرقين الترويج لذلك،
ولا يرجع الى الدين الاسلامي ذاته كما يحاول بعضهم ايضاً زعم ذلك واشاعته
منطلقين من تصورهم الخاطئ لايمان المسلمين بالقضاء والقدر.
من هذا
المنطلق نستطيع القول بأن ما تمر به الأمة الآن من تراجع حضاري هو في
صميمه عبارة عن مرحلة من التردي الحضاري من شأن الأمة تجاوزها والتخلص
منها اذا ما توفرت لها شروط النهضة وعوامل التقدم.